السلم الأهلي بين درعا والسويداء: مبادرات مدنية وإعلامية ترمم النسيج الاجتماعي في الجنوب السوري

في جنوب سوريا، حيث يتداخل الجبل والسهل وتتقاطع الجغرافيا بالعلاقات التاريخية والاجتماعية، يواجه السلم الأهلي في محافظتي درعا والسويداء اختبارات صعبة في ظل التوترات المتكررة، سواء على خلفية حوادث أمنية، أو تصعيد إعلامي، أو استغلال خارجي للخلافات. ومع ذلك، تبرز في مقابل ذلك جهود محلية متزايدة لتعزيز التعايش وإعادة ترميم الثقة، تقودها شخصيات مدنية، وفعاليات اجتماعية، ومؤسسات إعلامية محلية.
في الخامس من أيار 2025، أصدر ناشطون وإعلاميون وفنانون من المحافظتين بيانًا مشتركًا، دعوا فيه إلى وقف خطاب الكراهية، ورفض أي محاولات لشحن النفوس على أساس مناطقي أو طائفي. البيان، الذي نقل تفاصيله موقع “عنب بلدي”، شدد على أن أبناء درعا والسويداء عاشوا لعقود في حالة من التآخي، وأن أي شرخ يُحدث اليوم هو من صنع ظروف مؤقتة أو تدخلات مشبوهة، لا تعبّر عن حقيقة العلاقة التاريخية بين الجانبين.
وورد في البيان أن الموقعين يرفضون تمامًا “تجييش الشارع”، ويؤكدون أن وحدة سوريا، أرضًا وشعبًا، خط أحمر، داعين إلى تغليب لغة العقل والحوار، والعمل على تعزيز روابط التعاون والاحترام المتبادل، لا سيما في ظل الظروف المعقدة التي تمر بها البلاد.
ولم يكن هذا البيان الوحيد، ففي السابع من أيار، عادت شخصيات مدنية وحقوقية من المحافظتين لتصدر بيانًا آخر، تداولته منصة “تلفزيون سوريا”، يؤكد مجددًا على ضرورة حماية السلم الأهلي من الانهيار، محذرًا من “التدخلات الخارجية” التي تحاول استثمار أي نزاع محلي لتعميق الانقسام في الجنوب السوري. البيان أشار أيضًا إلى أهمية إنشاء منصات مشتركة للتواصل بين وجهاء المحافظتين، وتكثيف اللقاءات الشعبية، بهدف إزالة التوتر وإعادة جسور الثقة.
لكن أبرز الخطوات النوعية جاءت في مطلع حزيران 2025، حين وقّعت 15 مؤسسة إعلامية محلية على ما أُطلق عليه “ميثاق الشرف الإعلامي لمنصات الجنوب السوري”. يُعد هذا الميثاق سابقة على مستوى الإعلام المحلي، ويهدف بشكل واضح إلى مواجهة خطاب الكراهية، ووقف التحريض، وتحقيق المهنية والحياد في التغطية الصحفية، خصوصًا فيما يتعلق بالأحداث المتصلة بالعلاقات بين درعا والسويداء.
ينص الميثاق على التزام الموقعين بعدم نشر أو إعادة إنتاج أو ترويج أي محتوى قد يسهم في إثارة الفتنة أو التحريض، ويشمل بنودًا تفصيلية تتعلق بآليات تصحيح الأخبار، وإنشاء مكتب قانوني للتدقيق في الشكاوى، إضافة إلى إطلاق حملات توعية للصحفيين والعاملين في الحقل الإعلامي حول أخلاقيات تغطية النزاعات المحلية.
في حديث مع درعا 24، وصف الدكتور زيدون الزعبي الميثاق الإعلامي بأنه “خطوة شجاعة نحو الاستقرار المجتمعي في الجنوب السوري”، مضيفًا: “الحقيقة أن ميثاق شرف المنصات العاملة في الجنوب السوري، وتحديدًا في درعا والسويداء، يُعد نقطة فارقة وهامة لأسباب عدة. أولًا، يأتي هذا الميثاق في لحظة مفصلية تشهد فيها وسائل التواصل الاجتماعي دورًا تحريضيًا كبيرًا، في وقت نحن بأمس الحاجة فيه إلى الاستقرار المجتمعي واستقرار الدولة. أي خطاب تحريضي اليوم يستهدف المجتمع والدولة، وهناك من يظن أن الرد على التحريض بتحريض مضاد هو نوع من الدفاع، بينما في الواقع هو تكريس للتحريض ضد الذات. حماية المجتمع تكون بعدم التحريض”.
في حديث مع إحدى الوسائل، قال أحد الموقعين على الميثاق: “أدركنا حجم الضرر الذي يمكن أن تسببه كلمة غير مسؤولة، أو عنوان مثير، لذلك قررنا أن نعيد ضبط البوصلة الأخلاقية، ونمارس دورنا كإعلام مستقل مسؤول لا كطرف في نزاع”.
من جهة أخرى، لم تكن هذه المبادرات محصورة في النخبة الثقافية أو الإعلامية. بل رافقتها جهود مدنية محلية على الأرض، أبرزها في استقبال أهالي السويداء لمئات العائلات من درعا خلال السنوات الماضية، في مشهد يعكس حجم التضامن الإنساني العابر لأي توترات. كذلك ظهرت مبادرات مشتركة بين ناشطين من المحافظتين لتنظيم لقاءات حوارية، وورشات توعية ميدانية، إضافة إلى إعداد وثيقة سلوك اجتماعي تدعو لنبذ الكراهية.
وبحسب تقرير لـ”عنب بلدي” نُشر في نيسان الماضي، فإن هذه الجهود ساهمت بشكل ملموس في تخفيف حدة الخطاب المتوتر على وسائل التواصل الاجتماعي، كما ساعدت على استئناف بعض أشكال التعاون الزراعي والاقتصادي بين قرى متجاورة في درعا والسويداء.
إقرأ أيضاٍ: السهل والجبل أقوى من كل الفتن
ومع ذلك، فإن السلم الأهلي لا يزال هشًا، ويواجه تحديات فعلية، أبرزها تردي الوضع الأمني، وانتشار السلاح، ووجود فصائل خارجة عن السيطرة. وفي هذا السياق، تشير تقارير إلى أن بعض الجماعات المسلحة تسعى عمدًا لإفشال أي تقارب بين أبناء الجبل والسهل، لأغراض سياسية أو اقتصادية، ما يستدعي يقظة مجتمعية دائمة، ودورًا أكبر للدولة في ردع المتسببين بالتوتر، دون انحياز أو تمييز.
وفي هذا الإطار، يقول الباحث في شؤون الجنوب السوري، طلال أبو فهد، إن “الحفاظ على السلم الأهلي لا يمكن أن يكون مهمة موسمية أو محصورة في بيانات، بل هو مسار دائم من العمل التشاركي، ومراجعة مستمرة للخطاب العام، وتكريس للعدالة والكرامة كمبادئ غير قابلة للمساومة”.
وبينما لا تزال الكثير من القضايا الخلافية عالقة، إلا أن المشهد في الجنوب السوري يبدو أكثر نضجًا من ذي قبل، مع اتساع دائرة الوعي بأهمية الوحدة المجتمعية، خصوصًا في ظل غياب الحلول السياسية الشاملة. المبادرات التي انطلقت في أيار وحزيران 2025 ليست سوى محطة في هذا الطريق الطويل، لكنها تحمل دلالات إيجابية على أن الرغبة في التهدئة والتقارب لا تزال حية، وأن مستقبل الجنوب قد يُبنى على أسس الشراكة لا الخصومة.