لبنان

  • ” أم نور ” رودة عبد الكافي: ولادة من رحم النزوح

    أم نور أو رودة عبد الكافي لاجئة سورية وامرأة تحدت قسوة الحياة والحرب والنزوح وصممت على التغيير وتحدي الواقع وروت لنا قصتها من البدايات، حيث بدأت كلامها بقولها:

    كان حلمي أن أكون صحفية وكان الجميع يأخذ الأمر باستهزاء وسخرية، مرت الأيام وتزوجت بعمر صغير كأي امرأة في حمص حملت وأنجبت وربيت بناتي، كانت القوانين مجحفة بحقي لا تعليم لا عمل ولا مصدر رزق ودون أي شيء، فكل شيء كان ممنوعا بالنسبة لنا تحت مسمى الأعراف والتقاليد.

    وتابعت:

    مرت السنوات على هذا الحال حتى عام 2011 مع انطلاقة الثورة السورية وبدء الحرب والقصف والموت، كنتُ منفصلة عن زوجي وفجأة وجدت نفسي لوحدي وأحمل مسؤولية بناتي الخمس دون معيل وأهرب بهن داخل سوريا من مكان إلى آخر خوفا من القصف والحرب والدمار ورائحة الموت تحصد أرواح كل من حولنا.

    اضطررت للاستقرار في ريف دمشق في القلمون فترة من الزمن، ثم مع اشتداد القصف على القلمون اضطررت للهرب مع بناتي إلى منطقة أخرى أكثر أمنا، فلم يكن أمامنا سوى لبنان، كنتُ من آخر العوائل التي غادرت القلمون، كانت الجموع  الهاربة تتكدس على الطريق الواصل إلى لبنان، كان يوما مريبا فعلا وكأنه يوم الحشر، ثم بدأت أسمع صوتا يقول: (ساعدوا النازحين) ثم ظهر شخص بين الجموع يوزع علينا عبوات الماء، حينها عرفت أنني أصبحت على الأراضي اللبنانية، كنتُ حزينة وفرحة معا، كنت فرحة لأنني نجوت من الموت مع بناتي وحزينة لإنهم وصموني بوصم النازحة وكأنني أصبحت بلا هوية..

    بعد فترة بدأت أحصل على أوراق رسمية بديلة عن الأوراق السورية، كانت أوراقا من الأمم المتحدة..

    لم أستطع الاستقرار في عرسال، فقررت الخروج نحو شتورا ثم برالياس لأجد عددا هائلا من المخيمات وكان علي أن أختار واحدا منها وأن انتظر مساعدة أو سلة غذائية لأعيش، كانت عيشة مليئة بالقهر والذل، وكان الألم ينخر قلبي..

    الحزن لن يغير شيئا، صبرت وتصالحت مع واقعي، هذا الواقع الذي فُرض علي والذي حملت فيه مسؤولية أكبر مني، وخصوصا أنني كنتُ منفصلة عن زوجي، والجميع يعلم ما معنى امرأة منفصلة ونازحة وأماً بلا معيل أو عمل..

    في أحد الأيام لفتت انتباهي ابنتي ضحى (13عاما) وهي ترسم والتي كانت السبب الرئيسي في تغيير حياتي، كانت ضحى ترسم بشكل جميل جدا وفي ذلك الوقت لم يكن يوجد مدارس للأطفال السورين النازحين، كانت تستقبلهم المدارس اللبنانية بعد الظهر للنشاطات الترفيهية فقط، يومها راودتني فكرة كانت مجنونة بالنسبة لأهالي المخيم وهي أن أقيم معرضا لرسومات أطفال المخيم

    كنتُ أكره ضعفي وضعف الأهالي  وخصوصا النساء حولي، فقد كنا نجهل أبسط حقوقنا، فعلا يومها طرحت الفكرة على ابنتي ضحى التي تجاوبت معي بسرعة وجمعت لي عشرة أطفال من المخيم في عشر دقائق، وكانت أول مشكلة تواجهنا هي نقص المواد، فلا يوجد أقلام تلوين كافية ولا أوراق ولا نقود حتى لنشتري ما يلزمنا… يومها اكتفينا بمواد قليلة وبسيطة جدا وبدأ الأطفال يرسمون ويعيرون الأقلام لبعضهم مما خلق جوا من الأُلفة والمحبة بينهم، وحددنا أوقاتا للرسم والتدريب وتقييم الرسومات ثم بدأنا بتعليمهم بعض الأغاني والأشعار، وعملنا بجد حتى استطعنا تحديد موعد لمعرض رسوم الأطفال داخل المخيم في 15* تموز * 2015.

    وما إن علمت إدارة المخيم بنيتي في إنشاء معرض رسوم الأطفال حتى أرسلت بطلبي لتعلمني أنه لا يمكن إقامة المعرض دون إذن وتصريح رسمي منهم وعليه منعتني من إقامة معرضي، في الواقع كانت صدمة وخذلانا جديدا يضاف إلى قائمتي لكنني رفضت الاستسلام وذهبت إلى مكتبهم في شتورا وبعد نقاش وجدال طويل وافقوا على إقامة المعرض بشرط أن يكون تحت إشرافهم وكانت مفاجأتي عندما رأيت الإعلان الذي كتبوا فيه: (إدارة الأبرار تدعوكم لحضور معرض للأطفال في ساحة المخيم) ونسفوا كل تعبي وتدريبي الذي عملت عليه ليال وشهور مع أطفال المخيم، مع العلم أنني استطعت أن أجمع هدايا لأطفال المخيم بقيمة ألف دولار وقتها بمساعدة سيدة لبنانية كنت أعمل معها في محل للأحذية حيث دعمت هذه السيدة فكرتي ومشروعي وعرفتني على كثير من معارفها ممن ساعدوني في تأمين الهدايا للأطفال.

    فعلا أقيم المعرض ولاقى نجاحا كبيرا مما دفعني للبكاء بشدة حيث تم تجاهلي ولم يُذكر اسمي ولم ينوه لعملي وفكرتي ومشروعي الذي بذلت فيه كل ما عندي، يومها التزمت الصمت وكأن الحياة ترفض أن تنصفني حتى جاءني هاتف من إحدى المحطات اللبنانية تسألني عن المعرض الذي أقيم منذ عدة أيام وتطلب مني لقاء صحفيا للحديث حول الموضوع، يومها أصابتني سعادة فظيعة وكتبوا عن مشروعي وشجعوني بشدة وأطلقوا مبادرتي وسموها: (ولادة من رحم النزوح).

    منذ ذلك اليوم جعلت عبارة (ولادة من رحم النزوح) عنوانا أمشي تحت ظله واهتدي به لأقف على أرض ثابتة وانطلق منها، فرؤيتي للفرح المتطاير من عيون الأطفال ذلك اليوم لا أنساه أبدا، حتى أنني قررت أن أتابع مشروعي وأن أنشئ معرضا آخر، وبعد شهرين استطعت ترتيب أموري بشكل أفضل وخرجت من سيطرة إدارة المخيم وقمت بأخذ إذن من ساحة مدرسة قريبة على مخيمنا لأتمكن من إقامة معرضي الثاني فيها وفعلا حصلت على الموافقة، يومها بدأت أنشر عن معرضي الثاني عبر الفيسبوك حتى تواصلت مع أحد الصحفيين لينقل فعاليات معرضي وهو بدروه تحمس للفكرة وشجعني أيضا وكتب مقالا عن هذا المعرض ولم يكن يتوقع أيًّا منَّا أنْ يصل هذا المقال إلى أوساط عالمية.

    حيث قرأ شاب مقيم في بريطانيا مقال الصحفي وعليه طلب رقمي للتواصل معي وطلب مني أن أقيم معرضا ثالثا لكن هذه المرة ليس في ساحة المخيم ولا في ساحة المدرسة وإنما في لندن!! يومها كانت سعادتي لا توصف ودربت الأطفال مجددا ورسمنا لوحات جديدة وقمنا بإرسالها إلى الشاب المقيم في بريطانيا ليقام أول معرض لنا في لندن وذهب عائد لوحاته بالكامل لأطفال المخيم.

    هذه التفاصيل لا أنساها أبدا، وتابعنا بمعرض ثاني وثالت ورابع حتى كتبنا كتابا بمساعدة الأطفال باسم ((من سورية مع الحب))، تحدثوا فيه عن أحلامهم وأمنياتهم وبيعت منه 1500 نسخة.

    وتنقلت معارضنا لعدة دول أهمها فرنسا وألمانيا وجامعة هارفرد وكامبردج ونيويورك والمتحف الوطني في لندن.

    المعارض التي أقمتها فتحت لي آفاقا كثيرة منها الإعلام، ففجأة وجدت نفسي في لقاءات عدة على شاشات محطات تلفزيونية كثيرة لأتحدث عن النشاطات التي نقوم بها، كنا دائما ننسق لحملة نسميها (فرحة العيد) وهي عبارة عن شراء ألبسة وأحذية لأطفال المخيم عند قدوم العيد، للحظة شعرت أنني بدأت أحقق حلم طفولتي بشكل آخر.

    كما عملت على تمكين نفسي كناشطة اجتماعية ومدنية لدعم حقوق المرأة، حيث تطوعت مع عدة منظمات نسوية في لبنان ساعدتني ودعمتني في تنسيق ورشات عمل حول الجندر والعنف القائم على النوع الاجتماعي.

    وبدأت بحضور مؤتمرات لدعم السيدات في صناعة القرار وتمكينها سياسيا وشاركت في عدة برامج.

    واستطعت الفوز بالمركز الثّالث على مستوى سوريا بمسابقة صُنّاع التغيير لعام 2018 و في عام 2020 استطعت الوصول للتصفيات النهائية في مسابقة المرأة العربية.

    رودة عبد الكافي

    كما قمت بمبادرات فردية عديدة كانت آخرها مبادرة (سوا ربينا) التي توجهنا فيها إلى بيروت بعد انفجار مرفأ بيروت لتقديم الدعم، وقمنا بتوزيع وجبات غذائية والمياه والكمامات للأشخاص المتضررين.

    أكثر ما افتخر به هي الحملات التي قمت بها للحد من ظاهرة تزويج القاصرات حيث شاركت بحضور مؤتمر في مجلس النواب اللبناني في بداية 2019 لنطالب بتعديل قانون سن الزواج.

    وأخيرا قمنا بافتتاح مطبخ خيري في منزلي في البقاع بمساعدة عدد من الأيادي البيضاء (جيمس ونور) وأطلقنا عليه اسم (الفرن العظيم The Great Oven ) هذا المطبخ الذي انطلق في أيار 2020 نقدم فيه يوميا 70 وجبة مجانية لسبعين عائلة منذ ثلاثة أشهر تقريبا بشكل متواصل.

    رودة عبد الكافي

    وختمت أم نور حديثها وهي تعد الطعام في المطبخ الخيري قائلة: نحن في تحد دائم مع الحياة، رغم أنني عانيت ويلات الحرب والنزوح والفقر وحياة المخيمات إلا أنني لم أتخيل للحظة أن استسلم.. وأهم ما علمته لبناتي أن العلم والعمل والحب يقويان المرأة على شدائد الحياة وأزماتها.

    نسرين عزام
    موقع أنا إنسان

    الرابط المختصر: https://toleranceforsyria.org/?p=1605صفحة التسامح على الفيسبوك
  • من قصص اللجوء السوري: أنا السوري اللاجئ في لبنان

    اللاجئ السوري في لبنان عبدالله الطويل

    أقف على جانب الطريق المؤدي إلى المدينة وأمنح نفسي حفاوة اختيار سيارة الأجرة التي سأستقلها.. أحدق في وجوه السائقين والركاب قبل أن أختار إحدى السيارات لا على التعيين. عندما يصيبني الملل من الانتظار أو عندما أشعر أن الوقت بدأ يداهمني.. أصعد وأومئ برأسي ببساطة، فهنا لست في سوريا ولست مضطراً لإلقاء التحية…

    تحية تفضحني وقد تعرضني للابتزاز عندما يكتشف هذا السائق أني سوري الجنسية.. ببساطة أنا أمنح نفسي حرية الكلام في الوقت الذي أجده مناسباً، أي بعد دفع الأجرة المتعارف عليها وعندها سأكون قد فوتت الفرصة على السائق المتحاذق. وبعدها سأنهي الرحلة معه بعبارة الانتصار المشفرة (ع اليمين معلم) أو (ع رياحتك اخي). وعندها سأنظر نظرة قناص أخيرة إلى وجه ذلك الرجل الذي فوت فرصة استغلال معاناتي اليومية.

    لم أنم جيداً البارحة وأنا أستعرض السيناريوهات المفترضة لعملية استلام المساعدة الغذائية من أحد فاعلي الخير. الذي أرسل لي مشكورا” رسالة نصية تبلغني بوجوب حضوري في الساعة التاسعة إلى المكان الفلاني مصطحباً هاتفي لأثبت أني متلقي الرسالة مع وثيقة تسجيلي في الأمم المتحدة. فحريتي الشخصية تحتم علي توقع بعض التصرفات وردود الأفعال المطروحة من قبلي، فالقضية أكبر من كونها تلقي معونة.

    تتقلب في ذاكرتي صورة تلك الصبية المتطوعة في إحدى المنظمات اﻹنسانية وهي تطلب مني ومن باقي الحضور الوقوف في صف أحادي منظم تسهيلاً للإجراءات ولعدم استهلاك المزيد من الوقت. فأجيب أنا “بنعم” بكل رحابة صدر، وأمضي بعيداً حاملاً على كتفي تلك السلة النموذجية.

    وأنا أخطو غريباً في حي أبي سمراء الطرابلسي متسائلاً عن العنوان المرفق بالرسالة تتشابه في ذاكرتي الشوارع والأرصفة. وتضيع معالم المكان في باحة أفكاري الخلفية، وكأنني أمشي في أحد أحياء مدينة حمص. ولكن لست أميز أحدها بالضبط، فأنا شاب قروي لا يهوى الأبنية المتزاحمة.. أحدق في ساعة يدي وأمضي بسرعة أكبر مقترباً من موعدي.

    ما كل هذه الزحمة؟ ولماذا كل هؤلاء الخلق هنا؟ رجال ونساء وأطفال وشيوخ وفوضى لجوء ووجوه متعبة بأعين شاردة، وبين الهسهسات أسمع صوت امرأتين تتحاوران بشفافية: (لماذا نأتي من الساعة السابعة إن كان الشيخ لم يأت بعد، وفي هذا البرد القارس نترك أطفالنا؟!). وذاك الرجل العجوز المستند بكل ثقله إلى نصف جدار ممسكاً بيده عقب سيجارة عربية توشك على الانتهاء. بينما يلعب بعض الأطفال الإصدار الجديد من عسكر وحرامية (جيش حر وشبيحة).

    منحت نفسي الحرية مجدداً باختيار مكان وقوفي متجنباً الحديث مع الكثير من الواقفين مثلي. ممن ينتمون إلى العديد من أطياف المجتمع السوري وكأنه مجلس شعب مصغر، ولكن لا ضرورة للخوض في الأحاديث الجانبية.. وما هي إلا لحظات حتى ارتفع ذلك الصوت الجهوري منادياً الجميع بضرورة الاصطفاف في طابورين منفصلين للرجال والنساء كل على حدى، فاخترت مكاني غير المتقدم واللامتاخر مانحاً نفسي أفضلية تقييم الوضع الحالي.

    أنا في العادة أكره الضجيج والصراخ في هكذا مناسبات، وأحب الهدوء والسلاسة في سير الإجراءات، فكلنا نعرف مايجب علينا فعله.. لذا دعونا ننهي ما اجتمعنا لأجله بأقل تعب؛ ومع ذلك كان لابد لي من استحضار ما يشجعني على الصمود مع تهافت الناس باتجاه النافذة لذلك علي العودة إلى المنزل محملاً بالمعونة أو أن أستعد لتلقي اللوم على عدم الحصول على ماهو في النهاية من حقي.

    دخل الشيخ إلى كشك التوزيع وبدأ بإذاعة الأسماء وفق الترتيب الأبجدي وبدأت المعمعة وتعالت القرقعة والتف بعض المقربين حول الرجل وبدؤوا بتسهيل تسليم المعونة إلى البعض؛ بينما أقف مراقباً مع جمهور الغرباء الواقفين خلفي، ومضى الوقت سريعاً في تفاصيل القضية واقترب دوري فاقتربت، ودنا سعدي فدنوت، ولكن كان الجواب قاسياً (لا اسم لك عندي)، فسكت.. ولكن هذه رسالتكم عندي وفيها الموعد والعنوان!، فقال: لقد أرسلها رجل غيري ويبدو أنه أحد أقاربك ممن يقطنون الحي أحب أن يلهو معك قليلاً.. وكان الجواب أني لا أعرف أحداً في هذا الحي وهذه المرة الأولى التي أقصدكم فيها.. فأجابني: كلكم تقولون هذا مع أنكم في كل مرة تأتون إلى هنا وتزاحمون الناس بلا طائل وأنا صاحب أمانة لا أستطيع إلا أن أوصلها إلى مستحقيها !!!…

    لم يملك الرجل الواقف أمامي الا أن يغادر النافذة بعد هذا الحوار الجامد متأففاً مخذولاً وكان علي الاختيار سريعاً، فأنا لن أرغب أن أكون مكان هذا الرجل في هذا الموقف المحرج أبداً لذا سأنسحب تلقائياً متجنبا” الخوض في حديث كهذا، وسأدعي أني أخطأت العنوان كالعادة ولم أصل إلى مكان المساعدة إلا متاخراً، وسأعطي نفسي الحرية مجدداً في اختيار التوقيت المناسب للانسحاب، فهذه ليست المرة الأولى التي أتخلى فيها عما احتاجه مقابل كرامتي فليس بالخبز وحده يحيا اﻹنسان .

    أنا السوري عبد الله الطويل

    اللاجئ السوري عبدالله الطويل

    أما عن هويتي … فهي سورية


    الرابط القصير: https://toleranceforsyria.org/?p=1362

    نقلًا عن موقع أنا انسان

زر الذهاب إلى الأعلى